بينما تتجه الأنظار نحو رفح...تعمل إسرائيل على تعزيز سيطرتها على شمال غزة

 

في أعقاب موافقته الأخيرة على خطة اجتياح رفح، حيث يعيش 1.4 مليون فلسطيني، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي أن الجيش يستعد للتقدم.

وكانت حكومة الحرب "الثلاثية" المزعومة التي تضم نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، وزعيم المعارضة السابق بيني غانتس، قد توصلت بالفعل إلى إجماع بشأن التوغل في رفح للسيطرة على ممر فيلادلفيا (يُسمى أيضًا طريق فيلادلفي أو محور صلاح الدين).

وفي خطاب ألقاه أمام منظمة "إيباك"، وهي جماعة ضغط موالية لإسرائيل في الولايات المتحدة، أصر نتنياهو على أن "الطريق إلى النصر يمر عبر رفح"، وهي إستراتيجية يتباهى بأنها تحظى "بتأييد ساحق" داخل المجتمع الإسرائيلي.

ومع ذلك، فبينما تعمل تهديدات الساسة الإسرائيليين باجتياح وشيك لرفح على توجيه انتباه العالم نحو الجنوب، سارعت الحكومة بخطواتها على الأرض في شمال غزة لتعزيز احتلالها.

ومن السمات الرئيسية لإستراتيجيتها منع عودة النازحين الفلسطينيين من الجنوب في إطار سعيها إلى تغيير الخصائص الجغرافية والديمغرافية لقطاع غزة.

* "الاحتلال الدائم"

أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللتها شبكة CNN أن الطريق الذي يبنيه الجيش الإسرائيلي لتقسيم غزة إلى قسمين قد وصل إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.

ووفقا لتقرير شبكة سي إن إن، فإن صورة الأقمار الصناعية التي التقطت في 6 مارس "تكشف أن الطريق بين الشرق والغرب، الذي كان قيد الإنشاء منذ أسابيع، يمتد الآن من منطقة الحدود بين غزة وإسرائيل عبر كامل المنطقة التي يبلغ عرضها حوالي 6.5 كيلومتر (حوالي 4 أميال)". قطاع غزة على نطاق واسع، ويفصل شمال غزة، بما في ذلك مدينة غزة، عن جنوب القطاع".

ويشير التقرير إلى أن الجيش الإسرائيلي استخدم "كمية كبيرة من الألغام والمتفجرات" لتطهير المنطقة. واستخدمت القنابل الأمريكية الصنع لتدمير ما تبقى من المنازل والبنية التحتية في جميع أنحاء شمال غزة، وخاصة في منطقة بيت حانون المتاخمة لمعبر إيريز.

وأصبحت مناطق أخرى قريبة من مدينة غزة، وخاصة في ضواحيها الشرقية، جزءا من المنطقة العازلة التي تبنيها إسرائيل في غزة وعلى طول الحدود.

وفي حي الزيتون، وفي خضم مفاوضات وقف إطلاق النار التي لا تنتهي، يحرز الجيش الإسرائيلي تقدماً في "مشروع تجريبي" للإدارة المدنية يهدف إلى السيطرة الكاملة على توزيع المواد الغذائية وغيرها من المؤن. ويقوم على الاعتقاد بأن من يسيطر على الطعام يسيطر على الناس.

ويرافق هذا المشروع الحظر الصارم الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات المقدمة إلى غزة وطرد المنظمات الإنسانية من المنطقة، وهي سياسة تسعى إلى توسيعها لتشمل مناطق أخرى في غزة. وفي هذا، استهدفت إسرائيل على وجه التحديد تدمير وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، الأونروا، وهذا في سياق محاولتها القضاء على قضية اللاجئين وحق العودة للفلسطينيين.

وتسعى القوات الإسرائيلية كذلك إلى تجنيد عملاء فلسطينيين للتعاون معهم تحت ستار توزيع الغذاء والمساعدات. لكنهم في الواقع يسعون إلى توفير التدريب الأمني لهؤلاء العملاء وتشكيلهم في ميليشيات تضطهد الفلسطينيين. وستصبح هذه الميليشيات امتداداً للاحتلال مستفيدة.

واللافت أن الطريق الذي تم تشييده حديثا في المنطقة الشمالية يؤدي إلى تفتيت المدينة وتحويلها إلى ساحات سكنية معزولة. ويبدو أن موقع الطريق الممتد إلى البحر يتوافق مع موقع "الرصيف العائم" الذي تخطط الولايات المتحدة لبنائه، والذي اقترحت إدارة بايدن بناءه تحت غطاء توزيع المساعدات الإنسانية.

في واقع الأمر، تعمل إسرائيل على تطوير البنية التحتية للاحتلال الدائم لقطاع غزة في ظل ظروف تختلف جوهرياً عن تلك التي كانت سائدة قبل فك الارتباط في العام 2005. وعلى وجه التحديد، لن تعد غزة امتداداً للسكان الفلسطينيين أو جزءاً من الإقليم الجغرافي الفلسطيني، بل الهدف هو منع عودة السكان النازحين، أما من ينجح في العودة فلن يجد ما يعود إليه، إذ لا بيوت ولا أحياء ولا مدينة.

وهذا هو المبدأ المعمول به منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، وبروز قضية اللاجئين الفلسطينيين، التي لا تزال تُعرف بالتهجير "المؤقت".

* التوطين الإسرائيلي

إسرائيل بصدد إعادة احتلالها لغزة من خلال السيطرة على الطرق والممرات والشوارع الرئيسية. وحتى انسحابها الأحادي الجانب في عام 2005، كان الفلسطينيون محرومين من الوصول إلى هذه المناطق.

وتعود فكرة تقسيم قطاع غزة إلى مناطق يمكن للإسرائيليين الوصول إليها ومقصورة على الفلسطينيين، إلى احتلال عام 1967.

وفي عام 1971، أعد أرييل شارون، قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي والذي أصبح فيما بعد رئيسًا للوزراء، خطة لتقسيم غزة وشمال سيناء إلى خمس مناطق استيطانية تمنع التواصل الجغرافي بين الفلسطينيين في الشمال والوسط والجنوب.

وتحيط إسرائيل هذه المنطقة من الشمال بالمستوطنات ونقاط التفتيش ومن الجنوب بكتلة استيطانية في صحراء شمال سيناء. أطلق عليها شارون اسم "خطة الأصابع الخمسة"، وتبنتها الحكومة برئاسة غولدا مئير بالكامل في عام 1972.

الأول هو "الاصبع الشمالي" الذي ضم كتلة استيطانية أقصى شمال قطاع غزة - معبر بيت حانون وإيرز. وكان هدفها توسيع نطاق عسقلان (عسقلان البرج) إلى مناطق داخل غزة.

والثاني هو "إصبع نتساريم" الذي يمتد بين معبر المنطار أو كارني والبحر. ويبلغ طوله 8 كيلومترات ويفصل مدينة غزة عن وادي غزة ووسط القطاع. قبل عام 2005، كانت مستوطنة نتساريم تقع في غرب قطاع غزة، على طول الساحل. ويمر عبر طريق الرشيد وصلاح الدين، الطريق الرئيسي في غزة، ويمتد من شمال القطاع إلى جنوبه، ليشكل نقطة مراقبة لميناء غزة.

أما الإصبع الثالث فهو محور كيسوفيم، وهي مستوطنة قريبة من شارع الشهداء، تفصل دير البلح عن المناطق الوسطى بغزة حتى خان يونس، حيث أقيمت كتلة غوش قطيف الاستيطانية.

والرابع هو كيبوتز صوفا بين خان يونس ورفح. أنشئت عام 1974 كموقع عسكري في شبه جزيرة سيناء، ثم تطورت إلى مزرعة مدنية عام 1977. وقد تم تصميمها لتمتد إلى البحر.

أما الإصبع الخامس فهو تجمع ياميت الاستيطاني في شمال سيناء، على أطراف رفح من الجنوب، وهو ما يمنع أي تواصل جغرافي بين رفح وسيناء.

وضُمَت اثنتي عشرة من مدنها ومطار إسرائيلي عام 1982 بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر. وبعد ذلك تم إنشاء ممر فيلادلفيا (صلاح الدين). ومن خلال غزو رفح، تسعى إسرائيل إلى السيطرة على المعبر مع مصر.

وجدير بالذكر أن معظم "الأصابع" تتجه من الشرق إلى الغرب، وصولاً إلى البحر، لمنع التواصل الجغرافي في قطاع غزة. كان هدف إسرائيل هو عزل غزة من الشمال والجنوب في عدة مناطق إستراتيجية.

لكن معظم مخططات الأصابع لم تصمد مع مرور الوقت، وانتهت عام 2005 عندما قررت الحكومة برئاسة شارون الانسحاب الكامل من غزة.

وفي الحرب الأخيرة، عقد مجلس الاستيطان في الضفة الغربية مؤتمرا شعبيا لإعادة توطين غزة، حضره 12 وزيرا من حزبي الصهيونية الدينية والليكود. واستعرض المجلس خطط إعادة بناء الكتل الاستيطانية في نفس الأماكن التي تم سحبها وهدمها عام 2005 أثناء تنفيذ خطة الانفصال عن غزة وشمال الضفة الغربية.

* ورقة تفاوضية

ومن المرجح أن تكون تهديدات نتنياهو باقتحام رفح وممر فيلادلفيا مناورة تفاوضية للضغط على قادة حماس وابتزازهم. ومع ذلك، يصر المحللون الإسرائيليون على أن المصالح الإستراتيجية الحقيقية لإسرائيل تكمن في شمال غزة. ما يعنيه ذلك هو أنه لا يوجد خيار للنظر في حل شامل للحرب، بل مجرد صفقات جزئية ومؤقتة، تستمر بعدها الحرب، ولا تنسحب فيها إسرائيل، ولا تعود العائلات النازحة.

وفي أفضل الأحوال، فإن أي نقاش حول عودة النازحين في غزة سيكون ضئيلاً ولن يؤدي إلى عودتهم الفعلية. في الواقع، قبل أي وقف لإطلاق النار، ستكون إسرائيل قد أكملت نظام سيطرتها وعززت وجودها الاحتلالي في غزة. بمعنى آخر، لا تقوم إسرائيل بحملة عسكرية تنتهي بانتهاء هذه الحرب.

ويركز الفلسطينيون والعرب كثيرا على المفاوضات أو محادثات وقف إطلاق النار وأساليب العرقلة التي تتبعها إسرائيل. وينتج عن ذلك اندفاع على مدار الساعة وراء تفاصيل تشكل سلسلة من الإلهاءات، في حين تكشف تصرفات إسرائيل على الأرض بوضوح العودة إلى احتلالها الكامل لغزة وتدميرها بوصفها وحدة جغرافية واحدة لشعبها.

وتركيز المجتمع الدولي على المساعدات الإنسانية، مع تجاهل خطط إسرائيل طويلة الأمد، من شأنه أن يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى.

وهناك قضية أخرى تتعلق باقتراح "المرفأ العائم"، الذي يدعي البيت الأبيض أنه سيتم استخدامه لتوصيل مليوني وجبة يوميا إلى غزة. ووفقا لهذه الخطة، ستتولى إسرائيل السيطرة على أمن الميناء المؤقت بالشراكة مع الجيش الأمريكي، والذي لن يدخل غزة.

 ومع ذلك، صرح نتنياهو مؤخرًا أن هذا الرصيف يمكن أن يساعد في "ترحيل" الفلسطينيين من غزة، ويمكن لإسرائيل من خلاله تنفيذ سياسة الطرد الجماعي.

ويُشار، هنا،  أيضا إلى أن الطريق الواسع الذي يبنيه الجيش الإسرائيلي من جنوب شرق مدينة غزة إلى البحر يتوافق جغرافيًا مع الاقتراح الذي قدمه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، لقادة الاتحاد الأوروبي بشأن التهجير القسري للفلسطينيين إلى جزيرة صناعية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التركيز المستمر على شمال غزة باعتباره منطقة خاصة بها يشير إلى اعتراف دولي بأن شمال غزة أصبح منفصلاً عن الجنوب. ومن خلال إنشاء هياكل منفصلة لتوزيع المساعدات في الشمال والجنوب، وتديرها إسرائيل، فإن المجتمع الدولي يضمن استمرار وجود إسرائيل واحتلالها لقطاع غزة.

ويعني أيضاً أن المساعدات الإنسانية الأميركية قد تصبح امتداداً للاحتلال الإسرائيلي وآليات سيطرته على غزة. وتم تشكيل هذا المشروع بعد قيام أنصار حكومة نتنياهو بمنع دخول المساعدات إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم الحدودي.

* خطاب غير واقعي

بالإضافة إلى ذلك، فإن الخطاب السياسي داخل الفصائل الفلسطينية غير واقعي، ويتعامل مع الوضع وكأن الظروف هي نفسها التي كانت قبل 7 أكتوبر ولم تتغير جدريا. ويزعمون أن الفلسطينيين يجب أن يتغلبوا ببساطة على انقساماتهم، حتى بعد أن أصبح وادي غزة بمثابة حدود تقيد حركة الفلسطينيين في غزة على غرار جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.

لقد غيّر جدار الفصل العنصري بشكل جذري الخصائص السياسية والجغرافية للسكان في الضفة الغربية. وبنوه على أنقاض الوجود الحضري الفلسطيني والسكان الذين هُجروا قسراً ومُنعوا من العودة.

ومن خلال تنفيذ خططها في غزة، وخاصة في الشمال، تعمل إسرائيل على تأمين احتلالها الدائم لغزة. ويتعين على الفلسطينيين والعرب، فضلاً عن المجتمع الدولي، أن يركزوا انتباههم على التغيرات الجذرية التي طرأت على الحقائق الجغرافية والديموغرافية على الأرض.

ولابد من ممارسة ضغوط عربية مباشرة على الولايات المتحدة لإجبار إسرائيل على السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر حدودها البرية وعدم الخضوع لشروط الحكومة الإسرائيلية، حيث تظل غزة منطقة فلسطينية وليست إسرائيلية.

* مصدر المقال:

https://www.middleeasteye.net/opinion/gaza-war-israel-cementing-occupation-north

الرسائل الإخبارية

للاطلاع على آخر مقالات "موقع الندوة"، نرجو الاشتراك في خدمة جديد الندوة التي تصل إلى بريدكم الإلكتروني مباشرة من الموقع.