وهنا، يصيح في وجوهنا صاحب رأي وحجة: "لن يتم التغيير دون دفع ما تم دفعه من الأمم الأخرى، في الغرب والشرق، ليس ثمة تغيير من دون مقابل، بطيء أو سريع ثمة ثمن غال يُدفع في لحظه معينة، وفكرة أننا نستطيع التغيير من دون ضريبة وتضحيات فكرة حالمة وغير واقعية، والتاريخ والأيام بيننا". وهذا صحيح، لكنه ليس ضربة لازم، التاريخ ليس حتميات، والممكنات تتسع وتضيق، لكن كيف لفئات المجتمع أن تندمج في حركة التغيير وهي لم تقتنع أصلا، أو ليست مُطمئنة لمساره ولا ترتيباته ووجوه وقواه؟
هذه معضلة لا بد لها من حل عملي، التغيير يحتاج إلى إسناد شعبي واع واسع، واعتماد حركات التغيير على مجموعات بعينها أو رموز للتضحية والتفاني والصمود دون انخراط مجتمعي كبير على استعداد للتغيير، لن تمضي التجربة إلى منتهاها، يسهل إجهاضها بعد عزلها لأنها لم تتحول إلى حركة اجتماعية واسعة وممتدة وواعية (وهنا مهم الجمع بين العمق في الإدراك والوعي والتوسع الجغرافي).
ولهذا، ينبغي التركيز دوما على بنية المجتمع، وهل هي مستعدة للتغيير أم لا، فالأفراد مهما أوتوا من قدرة وصمود يمكن تحييدهم بسهولة أو عزلهم.
ورجاء، دعونا مما مضى ولا نكثر التلاوم، ولننتقل إلى الزمن الآتي، فكل آت قريب، فما الفائدة من العتب الذي ليس بعده إلا العتب؟ أكثرُنا واع بالعثرات وأوجه الخلل والقصور في خطاب حركة التغيير ومن برز فيها ولغتها ومنطق تدافعها السياسي، هذا عقلناه ووعيناه وأدركناه، ولولا هذا التعثر لما استوى النضج السياسي واشتد عوده، لكن لم تكن الخسائر والأضرار كبيرة، ولا الأخطاء كارثية، فلم تريدوننا أن نعيش في الماضي القريب، وأمامنا ما هو أهم!
ولو لم يغامر أحدنا ولم يجرب ولم يجتهد ولم يتعثر وينهض أكُنا اليوم نفكر بمنطق اليوم الحذر اليقظ.
الآن، وقد أدركنا ما أدرنا ووعينا ما وعينا، ما العمل؟ هنا، لا تكاد تسمع رأيا مستوعبا مقنعا، فهل تجمَدت عقولنا بعد محاصرة الشارع!
كل هذه العقول التي تزخر بها حركة التغيير السلمية لم تفرز صيغة تحرك، حتى الآن، وما اهتدت إلى ما يمكن عمله؟ الماضي ليس سجنا نحبس عقولنا بين جدرانه، الماضي يُقوَم ويراجع ليساعدنا في تدبير الحاضر والاستعداد للمستقبل، وليس ملاذا نبرر به عجزنا وننكفئ عليه، تلاوما وعتابا.
تجربة الثورات مُلهمة، صنعنا بمنطق ذلك الوقت ما رأيناه الأنسب واستدركنا على من قبلنا، تعثرنا فيها واليوم ننهض مجددا بعقل أوسع وأنضج، فماذا نحن فاعلون، لا تشدني إلى الماضي لتظلم علي الطريق، بل شعوبنا بحاجة إلى من يدلها على الطريق، لا من يغرقه في بحر الكآبة والأحزان والبكاء على الأطلال.