"مغنمُ" عدم مصادمة السلطة!
- التفاصيل
- بواسطة الكاتب: خالد حسن
- الزيارات: 102
ما سمعته من المفكر والقانوني المصري، محمد سليم العوا، في مقابلته الأخيرة (برودكاست مسارات) مما استفاده من عدم مصادمته للأنظمة (الحديث هنا عن المصادمة السياسية لا المسلحة)، وأنه لم يُعتقل قط، ولا دخل في صدام سياسي مع سلطة في مصر، كأنما هو مكسب ومغنم إستراتيجي لا يُضيع، وكأنما السجن والاعتقال للمثقف والسياسي باختياره هو إن "تجنب المصادمة"، وإن كان هذا ليس من لازم قوله.
ثم هل شرط المثقف المستقل أو الرسالي والسياسي المصلح المعارض، أن يكون على "علاقة طيبة مع الجميع"، ربما يمكن تصور هذا عقلا، لكن هل يمكن رؤيته واقعا؟ التصادم الفكري والسياسي حالة طبيعة في سنة التدافع، ولازم من لوازمها، فهذا مسار تغييري إصلاحي تتعارض فيه الخيارات وتتصادم الآراء والإرادات، عرفته كل الأمم والأزمنة، وهل أمكن تجنبه تاريخيا؟ ليس ثمة حقبة زمنية مرت من دون ابتلاءات وتصادمات واعتقالات وتضحيات، حتى وإن لم يردها صاحبها ابتداء واحتاط لها ما أمكنه ذلك.
نعم، أن لا تعرض نفسك للبلاء لما لا تطيق وتجنب الصدام المباشر، ولغة التحريض المتبادل، واعتماد لغة ناقدة متزنة بعيدا الاندفاع الأهوج والاستفزاز والعدمية السياسية واستنزاف مخزون الطاقة التغييرية وتبديده في معارك الندَية والشحن المتبادل، فهذا مما تقتضيه ضرورات الإصلاح السياسي المُمكن، وممَا استخلصناه من تجارب التدافع السياسي، لكن أن يكون مقياس الفطنة والحكمة تفادي المصادمة السياسية، ويصبح محور تفكير المثقف المستقل ومدار الفعل السياسي المعارض، فهذا لا يمكن تصوره واقعا، لأن عقل السلطة المنغلقة المتصلبة وصدرها أضيق من المُتخيَل.
أن تعرض للسياسات السلطوية الكارثية بالنقد والتصويب، فهذه رسالة المثقف والسياسي، وسلطة بلا قوى موازنة أو مضادة، مهزوزة وضعيفة، وتأتي بالكوارث، لأنه لا تسمع إلا صوتها ولا ترى إلا رأيها، وتنغلق في مربع المطبلين والمادحين والمتملقين، وهذا لا يزيدها إلا عزلة وإمعانا في التوجهات والسياسات الخاطئة.
وإذا كانت هذه السلطة لا تتحمل النقد والأفكار، وترى كل صيحة عليها، فكيف السبيل لتجنب مصادمتها؟ وهنا، مهم التفريق بين التصريح بالموقف والرأي بلغة هادئة واتزان وحصافة، وبين التحدي والتحريض والشحن، هذا يمكن تفاديه، ولا ينبغي سلوكه ابتداء، وثمة تيارات وقادة معارضة تلبَسوا به في بعض البلاد العربية، فهذا صحيح، وكان يمكنهم تفاديه، وغلبهم الاندفاع والهياج وسطوة الجماهير، لكن ماذا لو كان مجرد الرأي يُفضي بصاحبه إلى السجن والاعتقال؟
فهل يُحمد، هنا، السكون والجمود والصمت من أجل "مغنم" عدم المصادمة والاعتقال، كما فعل الحاكم الفعلي في السعودية بأشياخ ومثقفين وعلماء ومحامين وحقوقيين وناشطين؟ هل كان بالإمكان تفادي المصادمة، مثلا، في عهد ابن سلمان، الأسوأ في تاريخ آل سعود؟ أو مثلا في الجزائر بعد الحراك الشعبي السلمي، تكتب منشورا في صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي لا تُعجب شخصا واحدا في الحكم تجد نفسك متابعا بقضية في المحكمة، وكثيرون اعُتقلوا في السنوات الأخيرة بسبب منشور؟
وهذا المفكر الشيخ الثمانيني، راشد الغنوشي، كان إلى وقت قريب جزءا من الحكم، رئيسا للبرلمان، وقدم من التنازلات ما لم يستسغه رفقاء دربه، وليس من طبعه التصادم، بل يميل إلى التوافق، واليوم يقبع في الحبس، لأن الحاكم المتقلب ودائرته رأى فيه صداعا مزمنا وقد وصل إلى الحكم بأصوات حركته! فهل الغنوشي صادم الحكم لينقلبوا عليه؟
فالمسألة تُقدر بقدرها، وقديما كان الفقهاء المتبوعون رؤساء المعارضة في وقتهم، ولم يُحمد غيرهم على عدم المصادمة، وصناع التاريخ والكرامة لشعوبهم، ومحررو الأوطان والزعماء الكبار كانوا أصحاب مواقف جريئة يصدعون بها وسلخوا أعمالهم دفاعا عنها، ولهيب الأفكار أطلق ألسنتهم بالنقد والتصويب والنصح.
وعلى هذا، فعدم المصادمة عبارة حمَالة أوجه، وتستعمل، في كثير من الأحيان، في غير سياقها، وليست على الدوام دليل حكمة ولا نضج عقل سياسي. والأصل في المثقف أن يكون ناقدا بصيرا، فهو عقل الأمة وضميرها ولسانها، يدافع عن مصالحها الكبرى، وغالبا ما تصطدم آراؤه بسياسات الحاكم ونزواته، فما العمل؟ هل يدس عقله في التراب ويكتم أنفاسه وآراءه لئلا يصطدم بالحاكم، أم يهادن ويتملق وينافق ليكفوا أيديهم عنه؟
لا يخفى على الأستاذ العوا أن هذه الإشادة، على غير سابقة، بالعلاقة الطيبة مع الجميع، وأن مصر بخير، وهي في أسوإ عهودها ظلمة وانحطاطا، لا تصدر عن عقل حر وإرادة مستقلة، وإنما أملتها حسابات لا علاقة بها بالذكاء والحكمة.
وخيارُ عدم المصادمة (السياسية) مما لا يمكن تجنبه، قطعا، في عهد السيسي، الأكثر دموية في تاريخ مصر السياسي الحديث، فالقضية، إذن، لا علاقة بها بالذكاء والدهاء، وإنما الخوف من البطش والمطاردة والتغييب، وطلب السلامة والعافية.
الصدام السياسي مُستنزف للقدرات ومظنة ضياع المكاسب، لكن هل هذا التقدير غاية في ذاته؟ هل ما نتوهمه أو نظن أنه مكاسب يصبح حكما على أي تحرك بالإذن أو الترك، وهل يُتصور تدافع سياسي بلا صدام مُستساغ ومُتحمل، متوقع أو مباغت؟
لا تحملنا شدة البلاء السياسي وقسوة الثورات المضادة على سلوك طريق وتبني خيار بلا طعم ولا هوية ولا معنى ولا أثر، ولا حتى ممكنٌ عمليا، إلا ما كان مُتخيلا أو متوهما، فكما كان الإرجاء ردا على الخوارج، فكثير من الأفكار التي تتسلل إلى عقول الكبار، أحيانا، هي رد فعل نفسي على اختلال أو لحظة قاهرة عصيبة معينة.
وليت الأستاذ العوا يدلنا على طريق نلتمس فيه التغيير السياسي السلمي من دون مشقة السجون ولا عنت الإبعاد والمطاردة والمحاصرة، ونُرضي فيه الجميع!!