هل تنهزم حماس بعد الاغتيال المزعوم لمروان عيسى؟
- التفاصيل
- بواسطة عبده فايد / كاتب ومدون
- الزيارات: 212
صلاح شحادة..هل تعرف هذا الاسم؟ كان رجلًا بألف. أسّس عام 1984 جهازًا عسكريًا يُعرف باسم "المجاهدون الفلسطينيون".
بعد ثلاث سنوات، وتحديدًا في الثامن من ديسمبر عام 1987 سوف تقع حادثة بسيطة، لكنها ستغير الخريطة الفلسطينية.
قام أحد المستوطنين الإسرائيليين بدعس مجموعة من أربعة شباب فلسطينيين في غزّة، فخرجت جنازات الشباب التي سرعان ما تحوّلت إلى مظاهرات حاشدة وأعمال شغب واسعة النطاق ضد جيش الاحتلال، فرّد الصهاينة بإطلاق النار على المتظاهرين، فسقط شهداء جُدد..ولم تعلم إسرائيل قطّ بخطأ حساباتها إلا بعد أيام قلائل.
ما بدا حادثًا بسيطًا سوف يشعل أكبر تمرد فلسطيني داخلي منذ النكبة..الانتفاضة الفلسطينية الأولي..ليس هذا هو الكابوس الإسرائيلي فحسب..الكابوس الأكبر سيكون بعد أقل من أسبوع.
الشيخ أحمد ياسين سيجتمع برفاقه ويطلقون سويًا حركة المقاومة الإسلامية، أصدرت الحركة بيانين حملا اسمها المختصر "حمس"، ثم تحول الاسم في البيان الثالث إلى "حماس".
كانت ثاني حركة مقاومة إسلامية تنشأ في فلسطين. الأولى كانت حركة الجهاد الإسلامي التي أسسها طالب الطب الفلسطيني الذي كان يدرس في جامعة الزقازيق المصرية "فتحي الشقاقي""، لكن الحركة الناشئة "حماس‘" سوف تتحول في غضون سنوات ليس فقط إلى الحركة الإسلامية المسلّحة الأكثر نشاطًا، بل إلى أهم فصيل سياسي وعسكري فلسطيني.
صلاح شحادة طوّر كتيبة المجاهدين الفلسطينيين بعد الإعلان الرسمي عن تأسيس حركة حماس. وسيخرج إلى النور الجهاز العسكري الأول لها بعد 3 سنوات: "كتائب عزّ الدين القسام".
صلاح شحادة كان الرجل الأول والعقل الأكثر فتكًا وتدبيرًا في القسّام. دبّرت إسرائيل تسع محاولة لاغتياله، نجا منها جميعًا، حتى العام 2002، كنت أشاهد وثائقيًا مترجمًا عن العبرية يتحدّث فيه قادة الموساد والشاباك عن عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين ومنهم صلاح شحادة.
حينما علم الصهاينة بموقعه عام 2002، كانوا يخشون إفلاته، فكانت المداولات..هل تستخدم في عملية تصفيته قنبلة وزن ربع طن أم نصف طن؟ وانتهت إلى قرار بتصفيته باستخدام قنبلة من وزن طن..طن كامل من المتفجرات لقتل الرجل..وكان لهم ما أرادوا..وذلك في 23 يوليو عام 2002..ارتقى شحادة ومعه 18 فلسطيني..تخيّل حركة تتعرض لضربة قاصمة كاغتيال قائد جناحها العسكري، هل تنجو بعد وفاته؟
من المدهش أن كتائب القسام زادت قوتها العسكرية ألف ضعف في حقبة ما بعد شحادة..أتذكّر فيلمًا وثائقيًا من إنتاج الجزيرة عام 2005..واسمه "في ضيافة البندقية"، كان مراسل الجزيرة يجوب أبنية حماس السرية رفقة قادتها للوقوف على إمكاناتها العسكرية. كان من ضمن الفيلم لقطة تظهر تخرّج أبطال القسّام من أكاديمية عسكرية تحمل اسم "صلاح شحادة" تكريمًا للرجل، لكن ليس هذا هو المثير للاهتمام فحسب، بل بنية حماس العسكرية نفسها في ذلك الوقت.
هناك فيديو منزلي نادر جدًا لشابين هما "تيتو مسعود" و"نضال فرحات". كانا يجربان لأول مرة إنتاج صاروخ فلسطيني المكونات 100%. أحد رفاقهما كان يسخر من تلك المحاولات البدائية. وهل يُعقل لشابين أن ينتجا صاروخا؟ يجيب نضال فرحات في الفيديو المنزلي عندما سُئل: أيَ اسم سوف تطلقونه على الصاروخ، فرد قائلًا: "سوف نسميه القسام". وبالفعل أنتجت المقاومة الفلسطينية لأول مرة في تاريخها صاروخًا، لا يتجاوز مداه 2 كيلو ونصف. تخيّل من جديد شحَ الإمكانات والحفر في الصخر بمعنى الكلمة.
كانت كتائب القسام في عام 2005 تحصل على هيكل الصاروخ من أنابيب البوتوجاز الطويلة التي كانت موجودة في الأفران والمحلات. تخيّل جسم الصاروخ الذي أرعب الصهاينة وشيّدوا لأ جله القبة الحديدية بدأ من أنبوبة "بوتوجاز"، ليس هذا فحسب، لو شاهدت الفيلم ستجد طريقة طهي البارود المستخدم في العبوات، طريقة بدائية، حتى لتكاد تحسبها "طبخة شوكولاته في طنجرة قديمة"، أمور شديدة البدائية، لكنها في وقتها كانت تطورًا هائلًا عما تركه الشهيد صلاح شحادة. القسام تصنع صواريخها وبنادقها وذخائرها. واستشهاد شحادة لم يؤثر.
لماذا لم يؤثر؟ لأن حركة حماس ليست كحركة فتح. لا تقوم على احتكار المعرفة وشهوة القيادة. خلف كل قائد هناك قائد ظل واثنين وثلاث. حتى إذا استشهد المؤسس أو صاحب الفكرة، يستمر العمل الفدائي من بعده، بل وتزيد كفاءته. ذهب صلاح شحادة، وأتي قادة كبار آخرون، أحمد الجعبري على سبيل المثال، القائد القسامي الفذّ والمسئول عن التطوير العسكري الهائل في الجهاز، وعلى يده تحوّل الصاروخ ذو مدى 2.5 كم، إلى ترسانة مداها 150 كيلو متر، وتحوّل المقاتل القسامي من شاب هزيل البنية إلى جندي محترف، والأهم تمدّدت معه فكرة المقاومة.
تيتو مسعود ونضال فرحات استشهدا في غارة إسرائيلية بالمناسبة..فهل توقّف إنتاج الصواريخ؟ بالعكس..أضيفت كفاءات عسكرية أخرى حتى أصبحنا نشاهد صواريخ المقاومة تضرب تل أبيب، رغم الحصار المطبق عليها في الإمداد والعتاد.
يقول سائل: "يا أخي..لا توجد حركة لا تنتهي بمقتل قيادتها..اغتيال صلاح شحادة استثناء، لكن لو قُتل أحمد الجعبري مثلًا، سوف تنهار حتما". حسنًا اغُتيل أيضًا الجعبري في نوفمبر 2012 وهو مهندس صفقة الإفراج عن جلعاد شاليط..سوف تنهار حماس..هل هذه صحيح؟!
لا..بل تطورّت الحركة عسكريًا أضعافًا مضاعفة. وما تصورته إسرائيل نهايتها الدامية أصبح فقط بدايتها المزدهرة. كان الجعبري يخوض مفاوضات صفقة جلعاد شاليط في القاهرة. وكان الوسيط هو اللواء عُمر سليمان من الجانب المصري، ووكيل وزارة المخابرات الألمانية السابق، بارت كونراد، من جانب آخر.
يروي كونراد في وثائقي، أنه رأى مع الجعبري شخصًا آخر، كان يحفظ كل الملفات، ملفات 1000 أسير فلسطيني بكل تفاصيلهم. كان عقله كجهاز الحاسوب ورأيه حازمًا على صمته الطويل..كان هذا الرجل هو "مروان عيسى".
كان يُمكن للجعبري أن يستأثر بالسلطة، أن يصنع لنفسه مركز قوة، ويمنع تمرير معرفته للآخرين، أو ينتقي قادة صغار القيمة والهمّة، حتى لا يزاحموه يومًا على منصبه، لكن لا، لم يفعل، لأنه ليس كذلك. ولا الحركة تسمح بمثل هذا، هي حركة يعلم كل مؤسسيها أنهم مشاريع شهادة..أنهم ما أتوا إلى الدنيا إلا ليلقوا حتفهم بصاروخ إسرائيلي، لكن بين ميلاد واستشهاد، هناك رسالة وجب أداؤها: إيلام العدو وتمهيد الأرض لمن سيأتي بعدهم في طريق تحرير القدس. الدنيا ليست دارهم ومغانمها ليست أطماعهم، ومن ثمّ لا مكان لصراع السلطة، ولا احتكار المعرفة.
ذهب شحادة..وأتى الجعبري..ذهب الجعبري ثم أتى مروان عيسى..ومن جيل لآخر تنمو المقاومة وقدراتها العسكرية وتنجح في الخروج من 3 حروب إسرائيلية أكثر كفاءة، بل وتبني شبكة معقدة من الأنفاق تحت الأرض بطول إجمالي يفوق500 كم، ويصبح أسر الجنود الصهاينة لديها عادة وهواية.
وتنتج بدل الصاروخ ترسانة من 5000 صاروخ، والأهم تسبق دولًا عتيدة في المنطقة في إنتاج الطائرات المسيّرة..حسنًا..القسام لم تفقد القادة العسكريين فقط..بل أيضًا عقولها المدهشة..تيتو مسعود ونضال فرحات..والمهندس العبقري يحيى عياش..وغيرهم من الأسماء غير المشهورة..أي حركة تفقد تلك العقول في مناخ من التضييق والحصار..لا يُمكن لها الاستمرار.
لكن القسام لا تعرف السكون..ستخرج من تحت الأرض عقلًا فذًا سوف يُغير قوتها العسكرية للأبد..تستطيع مشاهدة قصة ذلك الرجل في فيلم وثائقي من إنتاج الجزيرة..شاب تونسي اضطهده نظام بن علي، فخرج هاربًا من صفاقس، ولم يجد وسيلة للاحتيال على أمن المطار سوى بوضع قطع قطنية في فمه، حتى يتضخم وجهه، ويناسب الصورة على الباسبور الذي سرقه للهروب..خرج الشاب إلى السودان دون أن يكمل تعليمه الجامعي، وعمل في مجموعة من المصانع، منها ما يتعلق بالتصنيع الحربي، ولم يتخل عن حلمه بدراسة الهندسة.
كان يمتلك ذكاءً فطريًا، وإن لم تعززه الدراسة، فلتكن التجربة العلمية..التقطته القسام..كان يذهب لغزة متخفيًا..وهناك أنتج أول طائرة مسيرة قسّامية..يذهب لتونس ويعود لغزة..ولا يعلم أحد على وجه الأرض، حتى زوجته التي كانت تناديه باسمه المزيّف القديم "مُراد"، لكن الموساد اكتشف أمره. وبدأ التجهيز لعملية اغتياله، باستقطاب شابة تونسية تعمل صحافية في المجر، وتجهيز خلية من فردين، تقوم هي على تجنيدهما، من أجل قتل "مُراد".
وفي عام 2016 وأمام منزله في تونس..ارتقى "مُراد" شهيدًا ببضع رصاصات اخترقت صدره..ظنّ الأمن التونسي أنه أمرًا عاديًا..لا..بل ظن العالم كله كذلك..رجل يُقتل أمام منزله، لعلها جريمة سرقة أو ثأر، لكن كتائب القسّام سوف تُفرج عن شريط يظهر فيه المهندس التونسي في غزة وهو يعطي تعليمات لطاقمه. كان المهندس هو "محمد الزواري" الذي سوف تُطلق القسام اسمه على طائراتها المسيرة: "الزواري"، قصته ستجدها في تحقيق الجزيرة في برنامج "ما خفي أعظم".
وهل ضعفت قدرات حماس بعد اغتيال الزواري؟..لا..بل ستطلق في 7 من أكتوبر عمليتها العسكرية الأوسع التي ألحقت أشد هزيمة بالصهاينة في نصف قرن..مستخدمة كامل ترسانتها من صواريخ وطائرات شراعية ومسيّرة..شحادة والجعبري، مسعود وفرحات، يحيى عياش والزواري..هم مجرد أمثلة فقط لقادة عظام ومهندسين أكفاء سقطوا على درب تحرير القدس من حركة حماس..والقائمة تطول..من الشيخ الأب المؤسس أحمد ياسين لعبد العزيز الرنتيسي لرائد العطار ومحمد أبو شمالة، لعماد عقل ومحمود أبو هنود، وسعيد صيام وإسماعيل أبو شنب.
ومن قلب كل محنة..خرجت الحركة وجناحها العسكري أكثر قوة وكفاءة..فهل تريدني أن أنخدع بإعلام العدو والمتصهينين العرب حول انهيار حماس بعد ما يٌقال عن اغتيال مروان عيسى..لا والله..حركة لم تسقط بعد ارتقاء كل هؤلاء الأبطال..لن تنتهي باستشهاد شخص واحد مهما كانت قيمته الاستراتيجية..لأن التجربة القسامية أثبتت أن سلسلة انتقال السلطة والقيادة السياسية والعسكرية مدهشة.وأن ما من قائد إلا ويخلفه من يناظره كفاءة ويضارعه موهبة.
وأخيرًا، لمن يقول بأن حماس ضحّت بالشعب الفلسطيني بينما ينعم القادة بالسلام..انظر لكل تلك القائمة من شهداء الحركة..ثم انظر لنفسك في المرآة..وقل لي كيف تحتمل كل هذا الافتراء والتضليل؟..كيف تقبل أن تكون بوقًا لدعاية الصهاينة؟..وكيف تفتري على رجال كان بإمكانهم التخلي عن المقاومة والاستمتاع بمزايا السلطة؟
لكن حياة الأنفاق كانت لهم خيرًا وأبقى من حياة القصور، وزخاّت الرصاص التي اخترقت أجسادهم كانت أطيب لنفوسهم من أوسمة معلّقة على صدورهم، ومطاردة مسيّرات العدو لهم كانت على أفئدتهم أكثر طهرًا من مطاردة عدسات الكاميرات، لأنهم في الأخير رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..ولم يعاهدوه يومًا على حب السلطة، بل على نصر أو استشهاد..فبأيهما ظفروا..كانوا منتصرين!