هل هذه نهاية سياسة فرنسا في إفريقيا، أم إنها مجرد تحول نحو نظام متعدد الأقطاب؟ فهل يمكن أن تكون هذه فرصة للدول والمؤسسات الإفريقية لتأخذ زمام المبادرة في إدارة القضايا الأمنية، وخاصة في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل؟
أدى الانسحاب العسكري من مالي، وبوركينا فاسو، وربما الآن من النيجر، إلى خسارة النفوذ الفرنسي في معاقلها التاريخية.
وتميل وسائل الإعلام وكذا السياسيون الفرنسيون إلى إرجاع أسباب هذا الانسحاب إلى أنشطة مجموعة "فاغنر" في المنطقة فقط، ولكن هناك عوامل أخرى يتسترون عنها:
الأول، ما يتعلق بتوجه السياسة الفرنسية في إفريقيا على مدى السنوات العشرين الماضية. إذ أدى انفتاح إفريقيا على العولمة إلى توازن جديد للقوى في كثير من بلدان القارة، وخاصة في البلدان الإفريقية الناطقة بالفرنسية.
وقد مكن وصول لاعبين سياسيين واقتصاديين جدد، مثل الصين والهند وتركيا وروسيا، من تطوير منافسة حقيقية مع فرنسا، التي لم تعد تمتلك الوسائل اللازمة لتحقيق طموحاتها في القارة.
أما العامل الثاني، وهو نتيجة مباشرة للعامل الأول، فيتعلق بإعادة تعريف سياسة فرنسا في إفريقيا ذاتها. وكانت هذه السياسة تميل، تحت ضغط المنافسة من جانب القوى الأجنبية في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، إلى الاعتماد على النفوذ العسكري الفرنسي.
ويتطلب مثل هذا التورط العسكري نجاحات عسكرية فرنسية ملموسة وملحوظة، ولكنه لم يحقق المطلوب، صحيح أن عمليات حركات التمرد المسلح في منطقة الساحل تباطأت لبعض الوقت، خاصة في عام 2013، لكنها أعادت ترسيخ نفسها في نهاية المطاف في المناطق التي كان الوجود العسكري الفرنسي فيها أقل وضوحا.
والأخطر من ذلك أن مالي وبوركينا فاسو والآن النيجر شككت في الوجود الفرنسي في بلدانها، وطالبت بانسحاب الجنود الفرنسيين. وهذا وضع غير مسبوق بالنسبة لفرنسا، التي اعتادت على ضمان السيطرة والنفوذ.
العامل الثالث في هذه الأزمة الجغرافية السياسية يكمن في الأوضاع الداخلية المتردية للعديد من دول الساحل.
وتشهد مالي وبوركينا فاسو والنيجر اليوم أزمات سياسية كبرى، تتسم بخصائص مختلفة ولكنها متشابهة: رفض النخب الحاكمة السابقة التي تعتبر "موالية لفرنسا"، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية المستمرة على الرغم من البرامج الكبيرة للمساعدات التنموية، وانعدام الأمن الإقليمي (وخاصة في منطقة الحدود الثلاث بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، مما يدعو إلى التشكيك في قدرة هذه الدول على حماية مواطنيها.
وهذا الوضع في المنطقة ليس جديدا، فقد استمر لسنوات عديدة، لكن التتابع السريع للانقلابات في الآونة الأخيرة يثير تساؤلات حول هشاشة الأجهزة السياسية في الدول المعنية، فضلا عن قدرة عساكرها على الاستيلاء على السلطة مع الاعتماد سياسيا على رفض الوجود الفرنسي وصناع القرار التقليديين.
هذه العوامل تجعل من الممكن أن نفهم جزئيا الفشل الحالي لسياسة فرنسا الإفريقية، وهو فشل لا يُعزى إلى حكومة معينة، بل إلى اختلالات هيكلية كامنة طويلة المدى أثرت على اتجاهها منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
وهذا الوضع الفعلي للانسحاب القسري، رغم أننا لا يتعين علينا بالضرورة أن نعتقد أنه نهائي، يترك المجال أمام جهات فاعلة أخرى ترغب في ملء فراغ السلطة الذي خلفه رحيل فرنسا.
ومن الواضح أن روسيا سارعت إلى ملء الفراغ الذي تركه الجيش الفرنسي من أجل اكتساب نفوذ أكبر في مجموعة الساحل الخمس، خاصة على المستويين السياسي والعسكري.
وكانت "الحرب المعلوماتية"، على وجه الخصوص، سلاحا استعملته شبكة "فاغنر" جيدا من أجل توليد رأي مناهض للغرب ومعاد لفرنسا في منطقة الساحل وغرب إفريقيا ووسط إفريقيا.
لكن هذا الوجود الروسي، من خلال مجموعة فاغنر وأيضًا الشركات العسكرية الأخرى التي تسيطر عليها موسكو -مثل Sewa Security Services وMoran Security Group- يظل في الوقت الحالي محفوفا بالمخاطر، ولا يمكن مقارنته بأكثر من نصف قرن من السياسة الفرنسية في إفريقيا.
ولم تنشر روسيا حتى الآن أي عمليات عسكرية واسعة النطاق في القارة، كما أنها لا تمتلك بنية تحتية وحضورا يضاهي تلك الموجودة في فرنسا.